الأحد، 29 يوليو 2012

أول اللقا ..



-



تصعد الكلمات من صدري، تترنح، تثقب الرغبة و الانطفاء، تقف
على طرف اللسان، ما بين الهرب و الهاوية، لكنّ عيناك تهدهدان الحديث،
و يطلع مكركبًا، ممتلئًا بالخواء، بالخوف و الحبّ.
تقترب يقفز النبض منّي ليديك على شكل وردة، تضحك لأنّك تحبني أكثر.









في المقهى : لقاءٌ أول .. 

للتي تكتب فيصير قلبي بستان ياسمين و حقل تفّاح، للتي تغني فتطير القوافي لبيوت القصيدة
للتي تجلس أمامي في الطاولة البعيدة كإوزة رقيقة وحيدة يلاحقها القمر لتصير باليرينا، لكنه لا يقدر.
للتي تشرب القهوة بتأنٍ و البن أصلًا عيناها، للتي ينزلق السكّر من بين أصابعها النحيلة و يهبط فوق
أكواب الغرباء، للتي تنظر للملأ، تقتل بلحظها كلّ الوجوه التعيسة .. و الفرحة أيضًا.
للتي تؤشر بيديها و تهرب كلّ الفطائر اللذيذة نحوها و الكعكة التي أمضى خباز المقهى ليلتهُ في عجنها.
للتي أقرأها متجاهلًا كلّ الأشعار الشهيّة و الأخبار الرياضية المثيرة و عارضات الأزياء النحيلات في الجريدة.
لتي لم تلتفت لوجودي بعد، للتي أسحب من طاولة السيدة العجوز جانبي منديلًا خلسة لأكتب له فيها :

" انظري امامك، خلف هذا السمين الغارق في صحيفته، يقبع تنين قديم .. "، و النادلة الساهية ربما في جرحها القديم، أو حبّها المقبل، ربما تسترجع قصيدة قرأتها البارحة، أو شطرًا من أغنية الصباح، أناديها و اهمس لها جهرًا، علّها تفهم حاجتي الملّحة في أن يستطرد هذا المنديل كلّ جوارحك و يأتي بوجهكِ، على الأقل عيناك ناحيتي، تسير بالمنديل نحوك بعد موافقة سريعة، بل مبتهجة، و قبلها .. و قبلها يا حبيبتي قد همى قلبي إليك بعينين مغمضتين و شهيّة مفتوحة للحب.

تدسّ المنديل بين كفيكِ بحنان، تشير بعينيها نحوي .. لكنك لا تفهمين و تحوم عيناك بفتنة حول ملامحها لتقرأين خبرًا أكيد، أو حرفًا يُصمت حيرتك، تُدمدم بينما تمضي عنك لربما أغنية حبًّ أو جزء من ورق المنديل.

و تطوين المنديل عن قلبكِ، تأججين رهبةً في صدري، يصير المنديل بساطًا أبيض صغير فوق طاولتكِ القريبة، و تمررين بهدوء، بلطفِ بالغ أصابعك و تقرأين، تلوح دهشة، ربما استنفرتُ نبضًا و ألفْ، ربما سرت حرارةٌ في وجنتيك، تصارعين هدبيكِ الناعسين و تفرين من وجهِ الحيرة لصدر الفضول، لصدر الحقيقة القريبة، تطير عيناكَ لذاك السمين، لما وراء السمين، تُدلفين برأسك قليلًا، تموج شعرتان و أنت تميلين نحو التنين القديم، تبحثين .. تبحثين، و تتقتح ملامحك كغُربة، كوطن، كأغنية لاذعة، و خِرتُ أنا من قواي حين لاقتني عيناك.



لقاءٌ أول : من ناحية قلبي

فستان دانتيل خفيف و حذاء مُزهر كقلبي حين أسمع حديثه، شعري مستريحٍ كمطر، و يدايّ مقيدتان بسوارين نحيلين تخيلتُ كثيرًا لو أنه يُلبسني اياهما، لو أنّه يشدّ العالم و قلبه حين يطوقهما حول معصميّ، ثم يقبّل يدايْ.

متناسقة مع وحدتي بفستاني الخفيف و أطرافي العارية من زينة، نسيتُ مظلتي و أنا خارجة لكنني شعرت بالحريّة على ايّ حال و الشمس تمسحُ بأشعتها فوق كتفيّ و عنقي و الباقي من وجهي، و هذه المرة لأن اليوم سيكون لي وحدي اخترت الطريق الأطول، أمشي طويلًا و ألفظ كلّ الحديث الذي خفت أن أقوله يومًا للشوارع و الشجر و الوجوه المستعجلة، هذه الحياة تستحق أن نعيشها بتريثٍ.

فكرتُ فيه كثيرًا، بوجههِ، بيديهِ، ربما حلمتُ بصوته .. بالزهر الذي وعدني بأنه سيرسمه لي، و القصائد التي أحفظها له حلمتُ بها بصوته، بصوتِ رجل يحمل العالم في كفّ و سوار ياسمين في اليد الأخرى .. كيف يبدو رفيق المسا و الصباح، رفيق الحياة و الطريق و الحُلم و الغناء، رفيق كل الفرح و اليقين، كيف يبدو لو مرةً لاقيتهُ و بأيّ شكلٍ سأنمو في عينيه؟ و الكلام في صدري كيف سيهرول نحوه؟ كيف سألفظ قيد حديثي امام رفيق قلبي و الغياب.

وصلتُ للمقهى، وحيدة .. ، جلست في الطاولة الهادئة، المستكينة تحت ظلّ شجرةٍ ما عتيقة، في الطاولة التي تشتاق لبعثرة قلبي و حديثه المشوّش و الطويل، في الطاولة القريبة دومًا من بيوت الحيّ المجاور أتأملهم و حياتهم و التفاصيل التي لا يُلقون لها بال دومًا، أهرب من حياتي نحو أعمارهم، أتخيّل لو أنني الطفلة التي تحمم دميتها في الفناء الخارجي بعد أن تنام والدتها، أو الصبيّ اللطيف الذي يدهن سور الحديقة بالطلاء و الدهشة مع أبيه، أو الخادمة المُتعبة من طنين العائلة و الأحلام المشرعة فوق حبل الغسيل، أو الزوج الذي يأتي متأخرًا عن الغداء بسبب عمل أو خيانة، أو الجدّة العجوز التي تدور بصحنها الصغير المملوء بالكعك و تشاطر الجيران عجينة الحبّ و العمر الطويل، أو ربما شجرة التوت التي يتسلقها الأطفال كلّ يوم و تعجزهم أغصانها الرقيقة، و كثيرًا ما اشتهيت أن أكون الزهر المرصوف على جانبي الشارع وسط هذا الحي.

آتي هنا لأرتب فوضى العالم داخل عقلي بهدوء، للقهوة التي تسير ببطئ في دمي و توقظ الأفكار النائمة، لفطيرة التفاح التي أخبرني بأنّه يحبها، لرغبتي العميقة بمصادفتهِ ربما، للحريّة التي تزرعها فيني ظلال شجرة البلوط فوق رأسي، لضحكات العاملين هنا رغم الحياة الوحيدة خلفهم، لمكعبات السكر أصفف فيها أحلامي و لا أغمرها بكوبي، للمقعد الخالي أمامي أشاطره عقائدي و الطُرف التي لا أجرؤ على قولها لأحد أبدًا، للنصوص التي تلبس وجوه حولي أقطفها لمفكرتي الصغيرة، لكل هذا العالم الصغير المجتمع داخل مقهى لا يُميزه نصف سكان الكرة الأرضية، للعالم الذي لا تأبه الحياة به لو انقضى لو اختفى، .. تذكرت ! قرطا اللؤلؤ، تذكرت ذلك و أنا أفرك اذنيّ علني أصلُ لنبرة صوته، تذكرتُ أنني ألبسهما، قرطان لؤلؤ متدليّان كقمرين، كمشهديّ دخان، كبؤبؤ زهر، كوقع أمنيتانْ.

ماذا ننتظر يا ترى؟ ما الذي نطلبه حقًا من هذه الحياة .. نحن لا نطلبُ ثمن ما أخذته منّا، لأننا ندري سلفًا بأنّها لا ترد شيئًا مما فات، و لأننا سرًا نخشى ذلك، نخشى عودة فعلًا عودة ما مضى .. ماذا عن الستائر ألا تكره ذلك؟ تُزاح و تُسدل على حسب رغبة الأمكنة، الضوء، الجمهور، و المزاج الذي يهيمن غالبًا على تحركاتنا و خطونا العجول؟ الستائر رقيقة، الستائر قطعةٌ من قلب أم، خصوصًا تلك الشفّافة، تلك التي يفرّ الضوء خلالها بزهو، تلك التي ترقص كلما هبّ النسيم و سار في الفلك شراع، تلك الستائر تمنيتُ لو أطلقها في حال سبيلها تسدل و تُزاح أنّى رغبت و متى. كان ستار المقهى يسدّ ناظريّ الصغيرة في الداخل عن الاطفال المهرولين في الباحة، قريبًا من نافورة الأمنيات، تتمنى سرًا لو يخطو أحدهم تجاه النافورة و يُلقي نردًا من قلبه إلى القاع، تمنّت لو انها تشهد ولادة حلم، بزوغ امنية.

لا شيء، سوى الأفكار المختالة، و كوب القهوة المتعجلّ، الفطيرة التي هضمتُ نصفها، و نادلة تميل بشكل غريب نحو احدى الطاولات، ربما تحاول أن تلتقط طلب طفلٍ صغير أو سيدة عجوز، أو أنها تُغري شابًا لطيف، يجوز لكلّ الاحتمالات أن تكون صحيحة، و عليّ أن أترك الكلّ و شأنه، هل أنا سعيدة؟ انّه سؤالٌ غريب .. رغم أنّي أتجاهله، لا أسأله كثيرًا، الا أنني لم أدرك يومًا الدرب للاجابة عليه؟ لكنني لا أشكّ بأن الاجابة قد تأخذ شكل ايجاب، السعادة ليست فرع، السعادة أصل، رغبة سريّة و علنية و جماعية، السعادة خطّة و فكرة و حقيقة، الايمان بكونك سعيد كفيلٌ أحيانًا بسعادتك، تلك الكلمات، هذه التي تدور في رأسنا كالرصاص و لا تخرج، تلك التي تشوشّ عقولنا و تبني تعاستنا، لو أننا نلفظها كلّ هذه الأفكار السامة، " أنا حزين\ فاشل\ وحيد\ لا أستحق أن أعيش\ لا أقدر\ لا يمكنني\ الحياة سيّئة\ ... "، نحن نستسلم لفكرة التعاسة أشدّ من استسلامنا لفكرة ان نكون سعداء، تنقصنا المحاولة، انّه في كل مرة تنقصنا المحاولة.

تباغتني النادلة بمنديلٍ تدسّه بين كفيّ، انّها النادلة التي رسمتُ عليها احتمالات عديدة لتوّي، بنت من الدهشة بابًا واسع و مضت، ربما أشارت نحو شيءٍ ما بعينيها لكنني لم أفهم، وهذا المنديل؟ هل تخبرني فيه عن وقاحتي و أنا أنظر اليها قبل قليل، هذا كلّه غريب .. لا شيء يستدعي الشكّ و الاستغراب انّه مجرد منديل بامكاني ان أرميه دون الاطلاع عليه، لكن الفضول قد استوطن صوابعي، و هناك شيءٌ ما في صدري يساوم كي يجد الحقيقة، فردت المنديل و كأنما غيمة انزاحت، الخط أنيق و أتبعُ الحرف و الكلام و كل هذا الجنون، تنين! لا، هل يُمكن أن .. لا تكتمل الأفكار، و لا الحروف الهاربة من وسط حلقي، من وسط دهشتي، و أبحث، خلف السمين، خلف شعره الأشعث، و يميل رأسٌ من خلفه، ينتفض النبض و أخاف، أخاف لو ألقاه، أخاف لو ألفظ قلبي إن طلع لي وجههُ .. عيناه!









و للنساء دومًا حيّزٌ أوسع من الثرثرة و الأمنيات و العالم كلّه.
to be continued .. maybe.
:)