الأحد، 5 يوليو 2015

رسالة #6





كانت تلبس معطفًا أسودًا أنيق، مثل تلك المعاطف السوداء التي أحلم دومًا بامتلاكها، وجهها لا يبدو واضحًا لي لكنني متأكدة من أنها كانت جميلة.. لأن المعطف كان جميلًا كفاية لينقل عدوى الجمال لكلّ ما حوله، التقت به قبل قرابة العشر الدقائق من بدء العرض المسرحي الموسيقي الذي اتفقا أن يحضرانه معًا، كانت ليلة شتاء دافئة.. غائمة، تصالحت بها مع قلبها الذي خرج لتوّه من حرب صغيرة، مشت إليه.. كان يتأمل لوحة إعلان العرض الممدودة بغرور على زجاج بوابات المسرح، لكنه كان يفكر بالأسئلة التي لطالما امتدت في روحه دونما جواب، لا يهم إعلان العرض، لا يهم كم فاتنة هي سماء الليلة، يرتاح لأنه يحمل معه المظلة.. رجل الاحتمالات غرق بما فيه الكفاية في المشاكل، لن تنال منه السحائب اليوم، لا يهم أي شيء، العرض الذي قرر أن يحضره معها لكنه لا يشعر بأي انجذاب تجاهه ولا حتى توق.. لا يهم، عشر دقائق تبقت.. لا يهم، هل يبدو وحيدًا؟ لكنه ليس كذلك.. وسيثبت للجموع الشامتة بأنه لن يحضر العرض وحيدًا، الجموع التي لم تلتفت إليه أصلًا.. لكنه ما زال سيثبت لهم، لأنه يحتاج أن يملك اجابة، معطى، أي شيء يثبت معرفته، لهذه الليلة فقط، .. ليس وحيدًا، وبيده مظلة.
كانت يداها نائمتان داخل المعطف، جيبان على كل جانب، مثل بيوت صغيرة.. أو ربما أعشاش، لأن يداها عشرة عصافير، كل خمسة في شجرة.. كل خمسة في أغنية، كل خمسة في حلم. دفء.. هذه المسافة إليه، وهي بعد لم تحدد أي شيء في حياتها هو، إنه ليس إلا شيء لم تحدده بعد، لماذا؟ فكرت كثيرًا من قبل، لكنه كان جميلًا وهو هكذا، له احتمالات هائلة.. وقرر أن لا يكون أي منها، مشت إليه.. ودار عن لوحة العرض إليها

- مرحبًا.. تبدو عجوزًا!
- مرحبًا... تبدين شابة وفاتنة
- عشر دقائق.. صحيح؟
- صحيح، هل تودين الدخول؟
- ندخل؟
- ...
- اوه! مطر!

زخات.. زخات..
هل كان ليتفادى أذى المطر؟ أم أذى دهشة الوجه الجميل بالمطر؟ ما كان ليتفادى.. انما ظل هائمًا لثوان، وعلى حين غرة همّ على روحه كل الأذى، أذى جميل.. ويشعر بهذا القلب التعِب.. لماذا لم تحضر مظلتك أنتَ الآخر؟ لكن القلب تساءل من جديد ولماذا لم ترفع مظلتك أيها الآخر؟ .. ثم أجابته يدها تسحبه لخطوة تحت المطر، خطوات وخطوات.. انها تضحك، ضحكة رنانة، تعيده لأيام لم يعشها إنما ابتدعها في ذاكرته، أيامًا هادئة ومسالمة، أيامًا ركضت بقلبه ولم يتعب، أيامًا يسافر إليها كلما حسّ بإلحاح الطفل داخله، خطوة تحت المطر، وضحكة رنانة.. ما الذي قد أيقظه كل هذا في القلب؟
لماذا لا يصمت كل شيء الآن، لكن كل شيء صمت، توقفت عن الضحك، لا شيء سوى المطر، سوى رنّة هطوله الخشنة والمريحة، كانت أمامه.. قريبين، كانت تنظر للأسفل، تشير للشارع بعينها وأصابعها كل خمسة عادوا لأعشاشهم داخل المعطف..

- انظر، حفلة نجوم..
- الشارع؟ .. هه، نعم حفل نجوم راقص

ثم ساد صمت لطيف، كلاهما يراقبان الاسفلت اللامع، حفلة النجوم، كل النجمات ترقص، لماذا لا يسعه أن يعود شيئًا صغيرًا هكذا مثل نجمة، ويرقص.. ربما في عينيها، أو على أطراف أصابعها المبللة والمختبئة في بيوتها.. المطر أيضًا صمت، أصبح هطوله رذاذًا لا يكاد يحس..

- تمنى أمنية..
- أمنية! حسنًا.. أن أعود شابًا، أن أعود لعشر سنوات على الأقل
- أمنية.. ممكن تحققها، هيا
- وأختطفك، أن أعود عشر سنوات ويبدو لائقًا أن أختطفك، أما الآن أنا عجوز جدًا

ضحكتها رنانة، لكن أكثر هدوءًا هذه المرة

- لا أحتاج أن تختطفني، المسافة بيننا هكذا آمنة، لا تحتاج مسافة أقل.. أظن بأن الأمور كانت لتختلف لو أن المسافة أقل، كنت سأحاول أكثر، لكن الآن وبهذه المسافة الآمنة يمكنني أن أبقى كما أنا، بتعددي أو بوضوحي لا أدري، أحب المسافة بيننا، لست عجوزًا بشدة، ليس بعد
- دوركِ، تمنّي أمنية..
- سلامًا، بعد هذه الحرب الصغيرة التي مرّ بها قلبي
- .. هل يرضى بالورد؟
- يموت سريعًا عندي..، اوه! لقد بدأ العرض منذ مدة هيا، كفى مطرًا

سحبته بعيدًا، خطوات عن المطر، خطوات إلى المسرح.

ثم بعد نصف ساعة تقريبًا، رأيتهما يخرجان من قاعة العرض، مغموران بالضحك.. لا يبدو أنهما طُردا، من الواضح أن العرض لم يعجب أيًا منهما، ما زلت أحسدها على معطفها الفاتن وهالة الدهشة التي تغطيها، كنت أنتظر أن يقتربا أكثر لأفهم لمَ خرجا، ثم اقتربا.. وكانت تضحك

- يا إلهي! هل فهمت شيئًا؟
- تبًا انه عرض سيء ومزعج للغاية!

ثم بدأ يقلد صوتًا أوبراليًا.. كان حادًا، لكنه أتقن النبرة والنغمة، وتبعته هي الأخرى.. وهكذا يقلدان ما شاهداه بطريقة مضحكة..

- أظنني فهمت جزءًا من المسرحية
- أرجوكِ، كدت أنتحر.. من يملك حنجرة كهذه!
- أظن بأن البطلة وحسب ما فهمته من إيماءاتها وغناءها، الذي لم يكن سيئًا للغاية على فكرة، بأنها متزوجة وتتوسل للشاب أن يبتعد رغم أنها لا تريده أن يبتعد، وأنها ترغب به بشدة.. لكنها لا تستطيع المجازفة بزوجها الثري والحياة المترفة ىالمذهلة التي وفرها لها من أجل مشرد وقعت في حبه
- مشرد! لا بل العكس، الشاب متزوج وهي ليست سوى مومسة تحاول الوصول إليه.. وعلى ما يبدو حبًا به، أظنها تعدت مرحلة الطمع بثروته أو بما يملك، لهذا بدت حزينة لأنه متزوج ولن يخاطر بزواجه من أجلها، من أجل مجرد مومسة
- لماذا مومسة! يا إلهي.. لا، تحليلك مؤذي، أظن بأن فكرتي مقنعة أكثر!
- مقنعة أكثر؟؟ بحقك.. كيف تقع امرأة متزوجة بثري بحب مشرد؟ هل رأته بالشارع يشحذ الطعام مثلا وعطفت عليه ووقعت بحبه؟ هل بدى لها متسخًا وأرادت أن تنظفه من تعب الدنيا وقذارتها بقلبها الواسع؟ وتواعدا في مقعد حديقة ما يحدثها عن أحزانها ويبث شكواه؟ هل بدى ممكنًا أن الحل المثالي للهروب من مشاكل زواجها هو الارتماء في أحضان مشرد؟؟ مقنعة أكثر؟؟
- حسنًا! لقد افترضت أنها ربما التقت به في مكان لا أدري، ربما حفلة.. كلاسيكية ولطيفة، بدا فيها نظيفًا ووسيما، ثم اكتشفت حقيقة كونه مشردًا
- أرجوكِ.. لا تغامري بخيالك وتسرقي حقوق الكاتب الفكرية، لقد ابتدعتِ مسارًا آخر كليًا، مغارة في بطن مغارة، وما سبب وجوده في حفل كلاسيكي وهو مشرد؟ لا.. ليس ممكنًا، إنما تحليلي أشد تطبيقًا للواقعية وأشد تصديقًا أن يهرب رجلٌ من مشاكله الزوجية لنسوة أخريات أيا كنّ، وافترضت بأنها مومسة لأنها بدت كذلك..
- هل ترى بأن نعود للداخل مرة أخرى لنكتشف الحقيقة
- مستحيل!!!

ثم انفجرا ضحكًا...

سأحاول اللحاق بهما إلى المقهى القريب، لكنني أشعر بالنعاس.. سأخلد للنوم، علّني أحلم بخطويتهما التالية.. المطر توقف، يمشيان بمحاذاة بعض، بصمت.. يخطوان للبعد، أحببت صدى خطويتهما.. أم أنني أحلم، أغفو... أنام

نمت طويلًا، كانت الساعة السابعة ودقيقة، الحادي عشر من أكتوبر.. استيقظت للتو وفاتني أن أتبعهما، أشعر بحزن ثقيل.. أردت أن أعرف ما هي الحرب الصغيرة التي تكلمت عنها؟ وعن ماذا تحدثا.. هل خلعت معطفها الأسود؟ لابد وأن المقهى كان دافئًا، هل مست عصافيرها العشرة قُبب يديه، هل تصادما على غفلة، .. هل تكلمت عن كل ما أرادت أن تتكلم عنه، حتى الأشياء المقلقة والمتعبة؟، انه يعرف أشياء كثيرة وهي تحب الانصات أبدًا، لابد وأنهما بقيا في الداخل لمدة طويلة، ألا تظن؟ ما الذي برأيك دار في الداخل؟ ماذا شربا؟ لابد وأنهما قررا أن يكملا الأمسية مشيًا في الشوارع التي تشبه الأغاني بعد مساء ماطر، ... أو معطفًا أسود أحلم باقتناءه ..


لي عينان متريثتان – مو متأكدة منهم نحويًا تبًا!- ، ونبرة صوت هادئة، وشيء ما يعتمل داخل هذا القلب، شيء ما مطمور، يسبب لي تعبًا لكنني لا أفهمه، شيء يشبه أن تشعر بظلال ما تسير بجانبك وخلفك بينما أنت منهمك بخطواتك، ثم حين تلتفت .. يبدو أن الظلال غابت وأكلتها الشمس كلها، الظلال التي تحدوك لكنك لست في مداها، ربما يصيبني الجنون، ربما كمّ هذه العلوم المملة يصيب عاطفتي بمقتل، ربما هذا ما يشبهه الأمر .. حين لا يبقى فيك غير عقلك، عقلك الذي حين تلمح وردة بادية من صدع في جدار يعلل الأمر بأن الجدار هش وفراغاته واسعة ومهيبة، لا بأن الشِعر حيّ والجمال حيّ، رغم أنني ما زالت تسرقني المشاهد التي لطالما سرقتني يوم كانت عاطفتي وحالميتي بخير، إنما صمتي الآن أمامها مشوشٌ جدًا، لا الصمت الذي هو لحرمِ الجمال، إنما صمت أنك ضِعت ثم وُجدت وهاك أقبلت ثم نسيت لماذا أنت هنا، أصبح مشوشًا جدًا ان أقف أمام منظر او مشهد أحبه، لابد وأن يهدأ كل شيء من تلقاء نفسه ويختفي الآخرون حتى يتسنى لي أن أتذكر وأستعيد دهشاتي الأولى، لأنه على ما يبدو فقدت قدرتي على أن أهيّئ الحول كله لي أنا وما أحب


لماذا لا أكمل ما أكتبه إليك؟ ولماذا لا يأتيني الكلام مثلما يأتيك؟ ولماذا أبتدأ بسطر وأنتهي بعناوين أخرى لا تتشابه.. أنا السيئة في تسمية الشوارع والنصوص والأرواح بعناوينها..، لماذا لا يمكننا أن نلتقي ولماذا ليس سهلًا ان نتمشى معًا في الشوارع هنا، مثلما تمشيتُ معك كثيرًا في نصوصي.. 

هل تذكر الاقتباس الذي تركته مرة لك آخر رسالة ما، اقتباس من حوار لفيلم –فيلم لم أشاهده أصلًا-، حيث آخر الحوار يجيب البطل العجوز:

 "You are the only part of my life I haven't figured out yet"*

بقدر ما تبدو مؤلمة للوهلة الأولى، إلّا أنها مدهشة .. وعميقٌ مدى الجمال فيها، ربما يشبهني البطل العجوز، ربما أقتبس قوله وأنا أصفك، أنك أنت الجزء الذي لم أحدده بعد في حياتي، الجزء الذي أعرف أنه لن يتكرر، الجزء الذي أعرف أنه لا يظهر هكذا عرضًا وغالبًا في حياة أي شخص عادي، إنما جزء يحدث لأناس قليلين.. جزء لا يحدث كثيرًا، وحين يحدث، فإنه يبقى، يبقى مهما انتهت حياة أولاك إليه، ومهما بدا أن الحياة تأخذهم وتشقلبهم وتُنضجهم وتفتتهم، يبقى .. حاضرًا، كما لو أنه كتب عليه الخلود في هذه الحياة القصيرة، لا يمكنك أن تحدث مرة اخرى لي، لا يمكنك أن تشبه حدوث أي أحد آخر، كل الآخرين .. أتوا، وأخذوا أسماؤهم، .. أخ،صديق،حبيب،أب،أخت،زميلة....، لكنك بقيت دون تسمية، لربما أنت المئة اسم، لربما أنت الأربعون ذراعًا ومئتين رأس، لربما أنت الأسماء كلها، لربما أنت الاسم الهجين أو الاسم الذي يقفز من تشكيل إلى آخر، ربما لم تكن أحد تلك الأسماء يومًا، لكنك بالتأكيد الجزء الذي بقي هكذا معلقًا مثل غيمة كما يقول العجوز، لا أعرف إن كانت ستمطر، ولا أعرف إن كانت ستمنع عني الشمس، لكنها غيمة ... مرة لها شكل ورق، ومرة لها شكل أرانب صغيرة، مرة وجه امرأة هائم، مرة وجه الأسد، الغيمة التي كانت موجودة طوال عمر طفولتي كلما رفعت رأسي واشتهيت أن اخمن شكلًا، الغيمة التي هي بمثابة صديق روحي، الذي هو ليس حبيبًا تمامًا وليس صديقًا تمامًا، إنما شيئًا ما زلت أحبه.. بغموضه، بماهيته التي لا تتضح أبدًا... الوجود الذي تارة أرجع معه طفلة ثم صبية ثم امرأة تخلت عن مأزق كتب الشِعر والأدب، إنه فاتنٌ أن تبقى، الجزء الذي سيبقى، مهما فعلت بي الحياة، مع أنه ليس عادلٌ .. أنني ربما أكون الجزء الذي تكرر كثيرًا في حياتك

لماذا تعاقب الآخرين على صمتهم؟ لماذا ترغمهم أن يكونوا عبيدًا للكلام؟ لماذا لا تتأنى .. لماذا لا تؤمن أن الكلام داخلهم أوسع من الذي تطمح أن تراه، لكن أعرف.. رسالة مقروءة أبهى وأجمل من رسالة أُعدت لكنها لن تأتي، ولماذا لا أنام الان؟ لماذا أصر على أن أمنح للكلام سلطته؟ لطالما كنا متخاصمين .. لكنني الآن سأنتزعه، وسأريه من هو عبد الآخر!

أين ذهبوا فيما بعد أولئك الذين استأجروهم ليسجلوا الخلفية الضاحكة في المسلسلات الكوميدية، هل ما زالوا يسمعون صدى ضحكاتهم، هل يبدو ممكنًا أن يستأجروا هم ضحكاتهم تلك للمدى التعيس من أيامهم؟ .. لابد وأن أدع لهم ضحكاتهم وأخلد للنوم... 
حسنًا، ألا تعتقد بأنها نسيت معطفها الاسود الانيق في مكان ما؟


______________________________________________________________________
* فيلم: Mr. Morgan's last love
الاقتباس كاملًا