-
تعدّين فطوركِ، تنضج الأرض، ينبت عصفورٌ من الشجرة الأخيرة في شارعنا - تلك الموسوم خلسةً في خصرها الخشبي، أوّل حرفٍ من اسمك -، تشرق شمسٌ من نافذة جارتنا العجوز، شمسٌ تشبه وجهكِ، تشبه غطرستي حين تهبّ نسائمك، تشبه خوفي حين أنسى كيف أكتبكِ .. تدسّين يديكِ بالطحين، تكبر غصون البراويز، تهرب ظلال الصّور كقطعٍ نرديةٍ صغيرة، يتلوّن الحائط بأيادي الأطفال المبللة بالزيت و الكعك و رائحة جونسونْ .. بينما تفرّ أصابعكِ من باب الثلاجة الهادئ تنصت القهوة لحزن الأباجورة، تهمس لها يد أمي " ضوء الشمس دومًا يكفي "، تُك و يموت الضوء كعتمة، يتراشق البنّ الطعم الأول، السحقة المفردة، الجذع الأصلي و الأيام التي نمى فيها تحت الثرى سعيدًا، كيف صرت قهوة؟ .. ترقصين بحماقة أمام تلاشي السكّر كغيمٍ في الشّاي، تنام أعينُ المغنيّة في مذياعي، كي يطلع صوتها حزينًا خائبًا، كالونّة الضعيفة، كيدٍ بلا رفيقٍ أو قلم، كحائطٍ لا يستند لثباته أحد، كالموج الذي لا يرجع للبحر مرًة أخرى .. تفتحين علبة البسكويت، يضيء وجه التلفاز، و خجلٌ أنا من التلفاز، ذاك الشاهد على غبائي، كسلي و كهولتي النشطة، الشاهد على فعالي السيئة و جواربي المطموسة توّها بزرع بيتك، واقفٌ كالأبله عند نافذة مطبخك الشهيّ، كالعدم، كالصرخة الواحدة لا تكسّر حيطان البئر العميق، واقفٌ أحفظ كلّ تفاصيلكِ، مقدار السكر في القهوة، لون الخبز في يديكِ و المقطع الذي تحفظينه من أغنية الصباح، أحفظ كلّ شيء و أشهدُ كلّ شيء إلّا وجهك الذي لا يشفي ظمأ النوافذ، و الحيطان العالقة وسط النوافذ، و الستائر المشنوقة بفتنة فوق النوافذ .. تخفقين بيضةً أخيرة، و أتذكر بلادة الوجوه العربية، قلوبهم الضعيفة، ركائزهم الضائعة، و الأناشيد التي تأتي دومًا دون معنى يهزّ الكسل و الهروب اللذان يجريان في معاقلنا، في أراضينا الدموية، في قراراتنا الهزيلة ..
تغنّي أمي للقطةِ التي أكرهها، و صوتي .. لم يعد يقظًا، صوتي الذي تعلّم كيف يعيد قوّته فوق الورق على شكل قافية، على شكل أحبّكِ تسرق الطريق لتهرب نحوكِ، صوتي الذي تعلّم كيف يرتب الوطن، العالم و كلّ نبراته التي لا يصل إليها على سطرٍ و آخر ..
صدري الفزع يتذكّر الأمن كجزءٍ مفقودٍ من النّص، فقدٌ ينبت في الآخر كدورةٍ متتالية من الموت الواحد داخل قلوبنا النابضة بعد كحياة، انّه صعبٌ أن تموت فيك الأشياء التي ولّدت كلّ معنى للحياة، صعبٌ أن تتسرب منك كضوءٍ يفضّ بكارة عتمة، تتسرب سريعًا كصوتٍ واحد، كريحٍ لا تقف، كنهرٍ لا يعيد نفسه، و عاجزٌ أنت عن البكاء، عن الحراك، عن المضيّ ..
ينفذّ الله منّا و فينا من كلّ صوب، لا يمكن لروحك أن تتصوّر جزءًا واحدًا من هذه الحياة الواسعة دون أن تبني للهِ وجودًا فيه، الله في كلّ شيء، في كل روحٍ و خطوٍ و فقد، و لذلك دومًا يدلّ السلام دربه لأرواحنا دون أن ندري، يميّزنا صدر الحبّ من بعيد، يتوّلد رفاقٌ و نهفو دون أن نسمع خطوِنا المتكسر، الله يُوجِد في قلوبنا كلّ شيء، كلّ معنى و شعور، نحن من عليه أن يدرك ما في الداخل، أن يؤكد الأصول المزروعة فيه، يلفظُ واحدًا و يحفظ آخر ..
أنتِ الآن تشربين القهوة، و تهتز حقول البنّ في العالم كلّه، و أصير دون تحفظٍ أو شكّ الكريمة المخفوقة في كوبكِ، و اللون المضيء الأخير من عمرك.
* يجيئكِ الكلام هرولة.
08:08 مساءً
22- يونيو - 2012
حركي شجنًا؟ لا أعرف كيف!