الاثنين، 8 يوليو 2013

صديقانِ نحن فسيري بقربي كفًّا بكفّ ..*

 
 
 
 
 
 
 

إنني وبلا شعور أسكب من روحي، ليفيض ما فيها أين ما فاض لا يهم، أنت هنا تستمع، ومطمئنة لك أنا من الداخل، بأنه لا يمكن للكلام الذي يصلك مني أن ينحرف عنك، ولا يمكن لقلبك اللين أن يحلل الحرف أكثر من اللازم، مطمئنة للأذن الجميلة التي تسمع .. تسمع بلا كلل، تسمع دون أن تتشكل أفكار ونوايا حول ما تسمعه، تسمع لأن الله خلق لنا أذنا تسع ثقل الآخرين، فوضاهم الجميلة .. والخربة، تسع تعثرهم وضحكاتهم، تسعهم بأكملهم بتدفق أصواتهم، باستدارة حروفهم ونبراتهم لحظة دهشة أو عاطفة أو تكسر، حتى في لحظة صمت .. أطمئن لأذنك الجميلة، أطمئن لها أكثر من أي شيء آخر، لأن أذنك قلبك، وقلبك .. لحظة التنهد، قلبك سؤالي الصغير والكبير وراحتي، قلبك الصورة الأكمل لضوء يسرّح تشابك شَعري وفكري وروحي، قلبك الستار الذي أختبئ خلفه كلما هب العالم بيديه الواسعتين "سأجدك!" وتخيل .. لا يجدني، قلبك الذي يسمعني، قلبك الذي أتمشى أمامه عارية إلا من ابتسامة واسعة، قلبك الذي يجبرني على التبسم، وإن كان تبسما حزينا .. آتيا من عمق رغبتي الجارحة بالرفقة والبقاء .. معك!
 مثلي؟ تمنيتَ لو أن الطريق لا ينتهي، لو أن الطريق وإن انتهى فإنه سيلتف حول نفسه من جديد ليبقينا أكثر، نُشرك العالم في تساؤلاتنا وحججنا وطرائفنا، وكعك الليمون، وأكواب الشاي، والرسائل وأصابع الشوكولا، وعناوين الكتب وتاريخ الشعر، ونظريات الكون وثقافات زيوس وأفروديت وهيرمس وأثينا، ورداءة النصوص الأخير،ة وبساطة الحياة في المكان غير الذي نعيش فيه، وخيوط المجتمع التي تلف رقابنا وكفوفنا وأفواهنا، وطريقة الشعب في تكوين ذاته تحت مسمى الكعك والأناقة واللمعان والتشيزبرغر، تفكك العناصر المركبة إلى أولي،ة وأهمية السوائل المبردة وتناقل المادة، ونظريات نيوتن واشتقاق الدوال، ونهاية الكون وتحلل الإنسان، اشتياقنا للذين لا يعودون والأحلام التي تصلح لأن تكون فيلما، رداءة تمثيل ستيفن سيغال وفتنة جوليا روبرتس حين تبتسم، حالمية الأفلام الهندية وكم أن عيد الألوان في الهند آسر وأود لو أحضره، والمقاهي المفتوحة في الدول الأوروبية، العصر الفيكتوري والجمال الذي تُحضره كيارا نايتلي حين تمثل دورا لفتاة فقيرة تعيش في الريف الانكليزي، ..  نمرر أصواتنا مع ما يدور حولنا, صغار لم تتمكن الحياة بعد من شد أطواقها الكئيبة حول شفاههم، حسنا .. نتفق أنا وأنت، أننا نحن من يشوه صورة العالم أحيانا، أننا نحن من نخيط له أقنعة بشعة ومخيفة، نواري بها سوءة أفعالنا ونجلي بها فاحشة العالم –الزائفة-، كل شيء قاس، وكل شيء ليّن في اللحظة ذاتها، إننا في أذهاننا نحب دور الضحية، نحب أن نقفز على خيوط دقيقة، نتراشق مجوننا وشيطنتنا، ثم حين نقع .. نقول لم يبني العالم لنا جسورا قوية، دعنا من هذه الحقيقة .. دع أصواتنا تتماهى مع طبيعة ما يحدث، دعها تندمج مع كل تلك التفاصيل الصغيرة والكبيرة، لربما يشكل مقطع من حديث بيننا نهاية مذهلة لحوار بين عصفورين، وربما تتحول نقطة اختلافنا إلى فواصل لقاء بين عاشقين سابقين تصادفا فجأة، قد تندلق ثرثرتي سلما تصعد به صبية صغيرة إلى بالونها الذي سافر منذ ثوان، وقد تتشابك حول نبرتك الهادئة أغصان شجرة توت لم تنبت بعد، دع أصواتنا تهدر .. ريثما يفكر الطريق كيف يتمدد أكثر، دع هذا الكلام يجد طريقه خارج قلوبنا، لا تدري لربما في عالم مواز كنا بُكم، قل لي في الفراغ الأبيض .. هل كنت لتدعو أن تكون قلما؟ فرشاة ربما؟ ملصق فرقتك المفضلة؟ نغمة ناشزة عن سوناتا ضوء القمر؟ نقطا سوداء ليصير الفراغ بولكا دوتس؟ مشهد إعلاني لشوكولا تنسكب – هذا مشهد لذيذ!- ؟ حبرا اسود؟ بقايا أحمر شفاه تركته حسناء لرجل خمسيني في مقهى؟ سلالم موسيقية؟ أم أنك ستختار أن تسبح في ضوء الفراغ الأبيض .. ينسحب إليه ليل صدرك؟ .. أشياء كثيرة من الممكن أن تحدث في فراغ أبيض، في النهاية يمكن للفراغ الأبيض أن يكون مجرد تصور لنملة تائهة وسط رخام أبيض واسع، أو مغمورة في شعر عجوز، أو ربما سانحة في مدى سرير مشفى، .. نترك الفراغ الأبيض؟ نتركه ..
 مازلت مندهشة، مني، منك، منا، من كل ما يعطيني إياه العالم في هذه اللحظة وأخاف أن أمد يدي للأخذ المرة بعد المرة، لابد وأنه يختبرني، لابد وأنه يقول يا لها من صبية طماعة، سأفاجئها بعد قليل، ستمد يديها .. وليس ثمة شيء لتغلق عليه راحة كفها!
 علمني .. علمني متى أرفض هدايا العالم، متى أسأله واحدة، ومتى أغتصب منه إن شئت، علمني كيف لا أخاف، وأن الوقوع ليس كابوسا، وأن الظلمة .. يمكن لها أن تكون أمنا، عندما نغمض أعيننا متى ما أردنا أن نحلم مثلا، متى ما أفزعنا شيء، أو متى ما وخزتنا ذاكرة، علمني أنني الآن وبمكاني هذا، بلحظتي المتوهجة تلك أتقاطع بخطوط قدري مع خطوط أقدار أخرى، نتشابه، نتصادم .. نبتسم معا، نأخذ الهواء معا، نسافر بلا أيادينا تحرس صدورنا، تحفظ ما تبقى به من الكلام والقصيد، نتشابه في أننا آمنين وأننا بلا حدود تضيّق فكرنا وتماهينا مع ما يتداخل في هذا العالم من حسّ وصمت وزحام، علمني متى أفلت الفكرة ومتى أحفظها في روحي مرساة سلام، علمني متى أقاضي شكوكي ومتى أفرض يقينا لم أعهده، علمني بأنه لا بأس أن تتبدل مبادئنا التي حفظناها عن ظهر قلب، وأن لا ليست تمرد وأن نعم باب مفتوح للتسامح واللين، علمني أن السؤال ضرورة وأنني حين لا أملك إجابة فهذا لأن العالم مازال يوسع خطوطه في مدارات روحي، علمني أن لا أربط شعر أفكاري، أن لا أركب له تسريحة الكعكة أو الضفائر أو ذيل حصان، علمني أن أفلته مثلما يفلت الليل عتمته وسكونه، مثلما تفلت السماء صدرها لفجر عذب أو حار، مثلما يفلت العالم كل حواسه حين تتشابك دواخله، علمني أن الأفكار من حقي، وأنها من داخلي، وأن الفكرة السيئة .. ليست بالضرورة سيئة، علمني أحيانا وليس كثيرا أن أنتبه على الطريق أكثر وأنتبه أقل على تفاصيله المزحومة، علمني أن الدمع سقيا، سقيا الروح والحلم، أنني حين أبكي .. تنبت من بين شقوق دمي بساتين مانجو صغيرة، وتزهر أرض بعيدة، علمني .. بأننا نحتاج أن نميل برؤوسنا للوراء، لنمسك بلحظة هاربة، لتتمشى الأفكار المزعجة والسيئة-التي ليست بالضرورة سيئة- إلى الخارج، نميل برؤوسنا لتميل معنا صور الحلم والذاكرة، علمني معنى أن أذكرك في قصيدة، وأنساك في نص ساذج، معنى أن أتوارى فيما بين مجاز الشاعر وألمس باطنه الشفيف، معنى أن نحلم ثم نفرد الورق تتأنى فيه لحظات الحلم مرة بعد، علمني معنى أن هذه الأرض تسع الجميع، وأن الورد يسد حقد البندقية، علمني أن الحجر يلين وتنبت من بين قساوته دوامة ناعمة من الورد، علمني بأننا حين نسامح تنام أرواحنا ملء جفونها عن شواردها**، علمني معنى أن نركض في حقول الروح، أرواح من نحب .. دون أن نكسر أرضهم، دون أن نهز حالمية الأمن فيها، دون أن نوقظ غفوة التعب، ونقيد سفر العذوبة والحلم، دعنا نزرع كلما توقفنا لنستريح مشهدا يطمئنون له كلما حاصرهم الدمع وبكوا، رأوا أن دموعهم غيث صيف.
 ونحن نزاحم العالم في ثرثرتنا هذه، ذكرني بأن لا أقسو كلما مالت روحي، كلما وقعت ذكرني بأن الأرض تحن إلينا، وما فاتنا ما كان ليكون لنا .. ذكرني بأنني أقدر وأنه لا بأس حتى في أشد اللحظات خيبة، وأنه من حقي أن أكون سيئة في أوقات كثيرة، ومن حقي أن أهرب ساعة يضيق الهواء من حولي وأختنق .. لكن عدني بأنني في كل مرة سأهرب، سأهرب فيها إليك، لأذنك الجميلة، لقلبك.
في اللحظة التي تقل فيها باقي الأصوات، ويهدأ كل شيء إلا صوتينا، سنهدأ نحن أيضا .. أعرف، سنخبو، وسيصير مع المساء كلامنا همس، إنه يليق أكثر أن نتحدث بالسر أمام نجمين شاردين يحبان الكلام والحكايا التي تنبت من الأرض، سأخبرك أنني أحب الليل حين لا أملك شيئا أقلق حوله في الصباح، وأنني أتمنى لو أسهر ليلا أمام البحر وأصدق أن الشمس طلعت منه، وأنها لحظة كنا نهيم بالسواد كانت تزرع جدائلها المضيئة لآلئ، سأخبرك أيضا بأنني ليلا أخاف من صوت الطائرات أكثر من ما أخاف منه صباحا، وأنني ليلا حين لا يشرد عن موعد نومه سواي أعيش لحظة مجدي مع السقف، إذ أنني بكل حرية أستطيع أن أشكل خيالاتي وأبتسم كلما ابتسمت -أنا المغمورة في مشهد السقف، ماذا ستخبرني عن الليل؟ هل تبحث في اتساعه عن بيوتا تصلح لقصيدة، هل يذهلك صمته المهيب؟ هل تسأل ترى ما الذي يمر في بال الليل، قمر واحد يكفي؟ هل يطمئن الليل قبل أن يغفو على نجماته؟ هل يسأل عن النجم الشارد؟ هل يعيد لبيت درويش جوابه .. هاكِ يا أمّ شاردكِ، الذي عيناه نجمتان***؟ أم أنك ليلًا تشرع ليلًا آخرا، ليل صدرك وروحك وتتشاركان شجنا وقمرا واحدا، أشعرك أيضا تقول له : هات علبة السجائر ..، وتصمتان، ثم تستريح في كتاب، أو عاريا مع أفكارك، تتناقشون وتتضاحكون وتقترح على أفكارك أفكارا أخرى .. ستخبرني عن الليل أشياء كثيرة، وسأستعير بعضا من مما يفعله الليل بك، لأكتبه .. أو أعيشه.
يحاصرنا البرد وتشوقني عربة مثلجات بعيدة، أغمض عيني لتمر لحظة مستعجلة، ألمس الوقت لكنه لا ينتبه، توقظ حواسي بفكرة لا أفهمها، لكنني أستمع .. أشكل الكلام الذي يحمله صوتك مع خيالات اللحظات المستعجلة، نستمع أنا ولحظاتي التي تبدو هاربة أكثر منها مستعجلة .. إليك، نقف .. يشدنا الحديث، تُدهشنا فكرة ما وتعيدنا من الحيرة نبرة أخرى متأنية تقول بأن الأمر بسيط لحظة واحدة لأوضح أكثر، نبتسم معا .. ترى ماذا يشبه العالم داخل رأسه - نفكر أنا ولحظاتي التي تلاشت تماما.
الصمت يعني كلاما أكثر، ورغم أني هادئة .. لكن حواسي تدور في ضجيج واسع، تذيب البرد الذي يضرب بخفة حواف أنفي وفمي وأطراف أصابعي .. لا أملك جيوبا في معطفي، لكنت دسست يديّ بعطف، لكنني بدلا أغمرني بك، يلمسني البرد بخفة، يجتاحني حضورك دون أن يسألني أن أفسح له دربا  .. ثمة ما يدور في روحي، لا أدركه تماما، لكنه يشبه اختناقا خفيفا، حلوا لا تقلق، إنه يشبه أكثر سلسلة الانفعالات المدهشة والمجنونة التي تنتهي ببكاء سعيد، بدمع عذب وضحكة بلهاء .. تتنهد المشاعر التي تثور داخلي، لا أملك جوابا يهدّئ من غرابة ما أحسّ به .. غرابة حلوة أيضا، لا تقلق.
كل شيء هادئ، مازلنا خفيفين فوق ضجة هذا العالم، نثرثر ثم نمنح ما حولنا لحظة سكينة، أريد أن أصرخ .. أن أباغت اللحظات المتمهلة من خلفنا، أريد أن أهرب وأجرب جنون أن أشد الوقت إليّ، أريد أن أوسّع روحي لمساحة أكبر من اللغة، أريد أن تعصف أصابعي بعنق الكلام فيتهدل فوق الورق أو فوق صوتي أو على قلبك، أريد أن أقسو وما أزال أؤمن بمساحة حنو تحدني، أريد أن أخبر العالم سرا ثم أصبح طيرا أو أثر سكر، أريد أن تتخفف الأغاني من الذكريات البائسة وتمر بنعومة على أحزاننا الصغيرة، أريد أن أرقص .. مع أحدهم، أن نتشابك تحت لمحة ضوء، نرقص وتخفينا العاطفة عن مرارة العالم .. قليلا، أريد أن أفسر للحظةٍ ما أقحمت روحي به دون أن أعطيها سببا أو فرصة لتفهم .. لأفهم، أريد أن أختبر قليلا ما يمر بي الآن، ما أنا عليه وما يحاصرني من غرابة حلوة، لأنني في هذه اللحظة لا أشبه أي شيء كنته قبلا، في هذه اللحظة حيث يلتهمنا البرد وغفو الليل اللطيف، حيث أصواتنا تصر على أن تمارس شغب وجودها، أسجل في مذكرة روحي تحول ذاتي، تحول أم تكون .. لا أدري، لكنه شيء لم أعهده، .. قلبي بستاره المرفوع، بحضوره مثل حلم يقظة أشكله كيفما شئت، حاضر وواضح لا خفاء فيه ولا غموض، أنا بداخلك/أنا بقلبي، أنا .. أنا، بلا استعارات أو مجاز يقصيني عني، هذا هو إذن .. معنى أن نتبدى دون خوف، أن نكون نحن نحن، أمام ما نطمئن إليه بحب، كما لو أننا العراء وهم الغطاء، نحن الوضوح وهم الضوء الذي يصير به وضوحنا وهجا، نحن الحقيقة وهم العيون، الصوت، الحضن، الامتداد، الأذن الجميلة، القلب الواسع .. الأمان من كل شك، نحن الحقيقة وهم تجلينا الأكمل.
 لابد وأن أخبرك حين ينتهي الطريق بأنك رفيق رائع، وبأنني أتمنى أن تتكاثر أشباهك وتجعل العالم .. لمرة أخيرة أفسح وأوسع .. نقدر فيه أن نتنفس كثيرا، أتمنى أن تجد مكانا لك فيه، مكانا يشبهك ويهيئ لك أن تبدو دون قلق -إنك تبدو على أي حال دون أن يهمك شيء وهذا أمر جميل-، أتمنى أن تجد لك فسحة تُفصح فيها عن روحك وعوالمك، تَكبرُ فيما بعد لأن العالم صار يحتاجها، لأن الذين يدّعون بأن الفراغ داخل رؤوسهم ليس فراغ .. تهاووا وصاروا طيورا صغيرة تسكن أعشاش عالمك بطمأنينة .. أتمنى أن تجد مكانا لك، لتبق أكثر. ولنمش ربما مرات أكثر..
 
 
 
 
 
 
"-في الأمس كتبتُ نصا ،
في النص كنت معي."
26-يونيو
  
 
 
____________________________________________________________
*أجمل حب - محمود درويش
** "أنامُ ملء جفوني عن شواردها" - المتنبي
*** "أما رأيتم شاردًا .. عيناهُ نجمتان" - محمود درويش

هناك تعليقان (2):

  1. باغتني سؤالٌ قبل أيام: حين تطلب يدي, ماذا ستصنع فيها؟ ماذا تريد منها؟

    ونصكِ هذا إجابته.
    *اتسعت ابتسامتي حتى كاد وجهي أن يتشقق وأنا ألمح آلهات الإغريق في نصك, قليل من يهتم بهذا القدر, قليل من يكون بهذا الإنتباه.
    شكرًا على فيض الجمال! : )

    ردحذف
  2. آتيا من عمق رغبتي الجارحة بالرفقة والبقاء*

    يا لذلك الرفيق الجميل

    و يا لرفق حروفك

    وقسوتها

    وبساطتها

    وتعقدها

    كم انت مختلفة !

    ردحذف