الأربعاء، 8 فبراير 2012

دعوةٌ مباغتـة ..



-








لونٌ و حديثْ ..

كـانتا تتحدثانِ عن الموت بـ فتنةٍ، كأنهُ أغنية صباح، قصيدةٌ من رحمِ الأندلـس، أو كـ برنامجٍ تحليل رياضيّ يمتدحُ فريقك المفضـل، كحديثِ نهضة بلد و انقضاءِ ثورة، تنحي طاغوتْ و فرحةُ أطفال، كأنهُ شيءٌ يخلّدك .. لا يفنيكْ !

أمي التي تحملُ داخل جسدها الوهن مرضٌ ينتشلُ كل ما قد صنع في أيّ أنثى بهجة عمرٍ و انتشـاء، يسرقُ جهرًا كل الأشياء الجميلـة و الأحلام التي ظننتَ بأنك ستلحقها يومًا و لو من بعيد، أمي التي أورثها السرطـان كنزه و اكتسـى بلحمها و عظمها الهش، نام تحت عينيها و استوطنَ صدرها الذي اتسعَ لكل شيءْ، أمي التي كانت تحملُ القوة بين يديها الطرية و كفيّها العريضتين، تقبلنـا كـ حلمٍ دافئ ليلة شتاء، كانت تزرعُ فينـا الفرح من وجعها، تخفـي الضياع و اليأس داخل صدرها كي ننـام مُختالين، و تظلّ هي ليلًا تعيثُ فوق السرير تحاول خزلَ ما أسكنته لنستريحْ، أمـي لا تغيب و لا تتلاشى، حاضرةً فوق كتوفنـا، نصب أعيننـا و عميقةً جدًا تتسربُ في دواخلنـا لتحطّ أخيرًا شرفةً ياسمينيّة لا يأتيها البكـاء، و أمـي كـانت عنيدةً جدًا .. تحبّ حين تقول شيئًا أن نسمعها بـ توقْ و نقول كم هي مُحقّة و أنّ الدنيا في عينيها لا يُخطئها أحد .

جلبتُها معي لـ تقابل أمي، و أمي التي كرهت كلّ الحسنـاواتِ اللاتي أتيتُ بهّن، كانت تخوض معهُنّ أحاديث سقيمـة و تبدي الاستفزاز فوق أحرفها كي تعبثَ بهدوئهن و تشكلهن حفنةً من ازدراء و غضب، حتى تصرخُ احداهنّ أنت مجنونـة، فـ أضطر أنا لأغضـب و أنهي العلاقة لأني الابن البـار الذي يدرك بخيبةً ألاعيب أمّه و حبّها للسيطرة ثم رغم ذلك يؤجل حياتهُ و احلامه المتأخرة كي يرضيها، كما لو انه يرد جميلها .. أوه لا تدركون كم كنّ جميلات و كم انا نادمٌ لأنّي لم أقضِ معهم وقتًا أطول قبل أن يلتقينَ بـ أمي :) !
كنت في كل مرةٍ أجلب احداهن أكون متأكدًا بأني سأنهي العلاقة حالمـا يخرجـن من غرفة أمي، لست ألومها .. هي تريد أن تواجهُ لو مرةً جميلة تحملُ بين دفتيّها نُضج، لا تخاف من الحديث عن أيّ شيء، تمارس الكون على طبيعتهِ دون أن تتكلّف أو تتكالف، أن لا تنمّق الحديث قبل أن تنطق أو تمـارس الاستذكـاء، أن تتحدث بعفويةٍ كما لو أنها وحدها، و إن غابَ عنها أمرٌ تتوقّف دون أن تمثّل دور الناضجـة التي تستهويها كلّ الأمور و تجيد الخوض فيها كلّها، كانت تريد امرأةً صادقـة .. و أنا كنت أريد شكلًا و أشياء جميلة تنسيني التعب، لأني سئمتُ من الحديث و الخطابات و تعليق الأشياء دون أجوبـة، أردتُ وجهًا جميلًا صامتًا يبادلنـي الرغبة دون أن يحطّ من قدري .. !

هذه المرة كانت مختلفـة، كنت متشوقًا لأعرفَ كيف ستواجهها أمي، أو كيف ستواجهُ هي أمي .. لم أكن متخذًا اياها خليلةً و لا عشيقـة
لم يكُن الأمـر سوى أنّي عرفتها ذات حديثٍ جمعنـا في المقهـى الذي ملّ من وجهي المُطل عليه يومًا بعد يوم، كانت قويّة حين تتحدث و جميلة ! .. كنت أرى الحروفُ من بين ثغريها و ضحكتها بين كلّ عريضةٍ و أخرى، تضحك من اندفاعها و أحيانًا غبائها على حدّ قولها ..
و ايماءتها الساحرة تجذبكَ عنوةً لحديثها، تطرقُ فجأة و تصمـت برهـة ثم تقول بهدوء و ابتسـامةٍ شبهُ غائبـة " لابدّ و أنّك تكرهني " ثم تردفُ بانفعال و ضحكٌ يسلبُ وجهك المشدوه قبال صوتها " أعني أن تقابل غريبةٍ في مقهىً كهذا، تبدأُ بالحديث بقصد دفعِ الحرج، لتنطلق هي بالحديث و تخبرك بأشياء أنت بغنىً عنها و تعرضُ أمامك خريطة عمرها، لست تقول بداخلك يا إلهي ما هذه المجنونة !؟ أرجوك ؟ " أقاطعها " أحبّ جدًا لو ألتقيكِ مرةً أخرى، و نبدأ الحديث برغبةٍ منّا دون طارئ أو حاجة (: "، " (: .. اسمـى شيخة "، " عدنان " !
هذه المرة، دخلت معها الغرفـة و جلستُ في ركنٍ بعيد أستنشقُ الأحاديث و وجهَ أمي ..

- كيفَ حالكِ خالة ؟
- الرائحةُ هنـا تشبهُ رائحة الموت ..
- آه جدًا، ظننت أنّ أنفي المُشكلة و انّه الذي يحبس الموت داخله .. نخافُه جدًا لحدّ أن نميز طعمهُ لونه و رائحته .

" أمي، استدارت نحوها تأملتها طويلًا، لم تجب أي  واحدةً قبلها من اللاتي عرفتهنّ على جملتها الشهيرة هذه، التي تبدأ بها أي حوار لتنهيه سريعًا، تأملت شيخة التي كانت تبعثُ بأنفاسها أحلامها و كلّ الأيام التي عبرت بها و لم تمنحها شيئًا على زجاج النافذة، مستأنسةٍ بالذين يتراشقونَ لحظاتهم هناك بين الطبيعة، أن يعودوا اليها للمرةِ الأخيرة ربمـا .. "

- ما اسمكِ ؟
- اسمي شيخة (: ، أبي سماني تيمنًا بأمهِ التي رحلت إثر حادثةِ حريق، لم يتخطى الأمر بعد .. شاهدها و هي تختنقْ، بعد عشرون سنةٍ مازال يترددُ قبل أن يشعل عود ثقاب ! .. للموتِ أيضًا صلةٌ وثيقة بالذكرى السيئة و العادات المخيفـة ..
- لابد أن الأمر صعبٌ عليه جدًا
- و علينا نحن، صعبٌ أن تقرأ الخوف في عينيّ أباك، الذي كان من المفترض أن يأكل الخوف من قلوبكم، صرنـا نطعمهُ من أمننـا الذي لا يلبثُ سريعًا في صدورنـا .. و أنتِ تودين الموت؟ أم أنّ السماء مازلت تعلّق على نحرهـا شيءٌ من بضاعتك ؟
- أنتظرهُ و أخشـاه .. تدرين ؟ لم يتحدث أحدهم معي هكذا منذ زمنٍ طويـل، نسيتُ كيف أجلب حوارًا يليق بأن يموت أحدهم .. كنت حين أجلبهُ يهلعون و يستاءون، كأنّ الحياة ملكهم .. كأن الموت سينساهُم .
- الدنيا لحن، ريثمـا يعدّ أحدهم سمفونيّة و يستمتعُ آخرٌ بهـا، سينطفئ وهلةً تلوَ الوهلة لـ يغيب بعدها بفاجعةٍ أو اصابعَ متلهفة تجري فوق بيانو و تدلي بعمقٍ على البياض و الأسقفُ الياسمينيّة تنهار .. و نتوهْ !
- و لا ندرك كم نحن قريبون منه .. لدرجةِ أن نتنفسهُ و ننامُ على أجنـابنا فوقه و نصحـو على زفيرهِ .. لو أنني أموت دون خوف !
- أشياءٌ كالموت، كالحبّ و الانتظار، تخيفنـا، لا لشيء بل لأنها بعيدةٍ كـ التصاقها، و قريبة كـ نفيِ وجودها .. لأنها أشياء تتآكل بجهالةٍ، تجدث فجأة، و تلتهمنـا بغتةً .. لا تنظر لأشخاصنـا و أرواحنـا بل لعمـرها و الخطّ الذي كتب لها منذ أن وجدت على الخليقـة، لأنها أشياءٌ مجهولةٌ نخاف .. نخافُ لو أنها حطّت .. ستأخذ كل شيءٍ أم تعطي كل شيء !
- كم مرةً هطل عليك ..
- هطل عليهم، لأبقى وحدي محاطةٌ بكل الذين غابوا *
- كبيرةٌ جدًا لأستبعد الموت ..
- أودري هابورن، الفتاةُ هنـاك تشبهها جدًا .. فاتنة (:
- لمياء، حضرتُ معها جلسات العلاج الكيميائي، حزينـة جدًا
- المكان هنـا يبعثُ بالبكاء و الضجـر، هِه شجاعةٌ مازلت صـامدة !
- لا لستُ كذلك، و مسكينٌ عدنـان عليه أن يتحمّل كل تفاهاتي، و عجزي و عنـادي، أن يطرد حياتهُ ليستسلمِ لهرمـي و فنـائي .
- لا تدركين كم نحن مستعدون لـ نموت أو نتوجع من أجلِ أن تهدأ نبيّة الأحزان في صدوركم، من اجل أن نعانقَ وجوهنـا الصغيرة التي مـا زالت تنامُ فوق كفوفكم آمنة، كم تستحقون أن تهدأ أصواتنـا و عجلةِ الحياة التي تنوغل فيها رغم كل شيء يسلبنـا منها، أن نمنحكُم قطفًا من أرواحنـا الخجلـة المثقوبـة فوق ألفِ جرحٍ و خواءْ، نحنُ حين نضمّكم و نستحملُ ثرثرة الكهولةِ من على أفواهكم و حواجبكُم المعقودة بترف، نحاول أن نبلغُ من المدى البعيد شيئًا فـ نرد بضعَ جميلٍ و خيبـة، نحن لا نخافُ من أن يضيع العمـر و مـا زلنا نمّر بكم منحني القامات منكبّي الرؤوس من وطئكم، بل نخاف أن ينقضي نفَسُنـا و نحن صغارٌ جدًا أمام حجمِ تداعياتكم التي أسهبتُم في نعيها من أجل أن نضحك أو نهدأ أو نرضـى، لا ينقصنـا شيءٌ في الدنيـا سوى أن تتآلف الكفتيّن مـا بين تضحياتكُم و ردنـا للجميل، لأن يرتاح فينـا الضمير، و أنّا نحبكُم فوق كلّ ذي حبٍ و انتمـاء .
- تمامًا كما حدثني عنكِ .

جميلةً كانت رغم انبساطِ الحزن و بذخهِ الذي ينامُ على وجهها كلّه و يملأ زخم عينيها، و يندلعُ بفتنةٍ حين تتحدث .. أخرسـت أمي و سلبتها عناديتها و كِبرها الذي تخالط مع كبريائها، كما لو أنها أدركت بأن أمي عالقـة هاربةٌ من الحياة و الموت في آن .. و اطعمتها التأنـي و الانحناء أخيرًا لكل اولئك الذين يشدونها نحو اللحظات الأخيرة نحو الاستغراقِ في كل شيء و التملصِ من ذلك الوسن الآثم الذي يحدثها دومًا عن الموت و انّ الحياة لن تتغير حين ترحـل، أن تستوعبَ أخيرًا أن ايلامِ أحبابكِ ليس طريقةً ليتبنى لك العالمُ فيها مِسلة شهامةٍ و عظمة .. لا يمكنك أبدًا أن تصنع وجودكَ بـ ايجاعِ الآخرين و سلبِ الفرح من أعناقهم .




* أيهما أشدّ بياضًا الموت؟ أم الخوف من الموت؟ الرهبةُ كأنها تاج، أساورٌ تلّون عنق الموت و رأسـه .. كنت أفكر :
" الحياةُ أقصـر من أن نتحدثِ عن الموت، و أطول لأن نذكر أنفسنـا به كلّ ليلة ! .. احتاجُ للحبّ "

هناك تعليقان (2):